leftlogo

حالة خدمات توصيل الطعام في مصر

A A A
توصيل الطعام
شركات التوصيل
في العقد الأخير، شهدت مصر تحولاً جذريًا في عاداتها الغذائية بفضل ظهور وتوسع تطبيقات توصيل الطعام. ما كان في الماضي مجرد خدمة إضافية تُقدمها بعض المطاعم عبر الهاتف، أصبح اليوم صناعة ضخمة تسيطر عليها منصات تكنولوجية عملاقة مثل "طلبات" و"كريم فود" و"أوبر إيتس". هذه التطبيقات لم تعد مجرد وسيلة توصيل، بل أصبحت جزءًا لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي والاقتصادي، حيث تربط بين ملايين المستهلكين، وآلاف المطاعم، وعشرات الآلاف من سائقي التوصيل.
ومع ذلك، فإن قصة هذه الصناعة في مصر ليست مجرد قصة نجاح تكنولوجي؛ إنها قصة معقدة تحمل في طياتها الكثير من التحديات، وتثير تساؤلات حول مستقبل قطاع الأغذية بأكمله.


أولاً: التجربة من وجهة نظر المستهلك.. الراحة في مقابل الإزعاج



بالنسبة للمستهلك المصري، فإن الميزة الرئيسية لتطبيقات التوصيل لا يمكن إنكارها: الراحة. فبضغطة زر واحدة، يمكن للشخص تصفح قوائم طعام مئات المطاعم، واختيار ما يناسبه، وتتبّع طلبه حتى وصوله إلى باب منزله. هذا التنوع والسرعة أحدثا ثورة حقيقية في طريقة تناولنا للطعام، وأصبحا جزءًا أساسيًا من نمط الحياة اليومي، خاصة لدى فئة الشباب.
ومع ذلك، فإن هذه الراحة تأتي غالبًا مصحوبة بسلسلة من المشاكل التي تثير غضب المستهلك. يأتي على رأس هذه المشاكل التأخير في وصول الطلبات. فرغم أن التطبيقات تعد بوقت توصيل محدد، فإن الالتزام به ليس مضمونًا دائمًا. الازدحام المروري، وسوء التقدير في أوقات الذروة، أو حتى المشاكل داخل المطعم، كل ذلك يساهم في تأخير وصول الطعام، مما يؤدي إلى تجربة محبطة للمستهلك.
كما أن جودة الطعام تُعد نقطة خلاف رئيسية. فالطعام الذي يصل باردًا أو في حالة سيئة، أو الذي لا يتطابق مع الصورة المعلن عنها، يُفقد العميل الثقة في المطعم وفي التطبيق على حد سواء. يُضاف إلى ذلك أخطاء الطلبات، حيث يتلقى العميل وجبة غير كاملة أو خاطئة، مما يتطلب منه التواصل مع خدمة العملاء لحل المشكلة، وهو ما يُعد إزعاجًا إضافيًا.


ثانياً: معضلة المطاعم.. زيادة المبيعات في مقابل خسارة الهوية



بالنسبة للمطاعم، خاصة الصغيرة والمتوسطة، فإن تطبيقات التوصيل تمثل سلاحًا ذا حدين. من جهة، هي توفر فرصة ذهبية لزيادة المبيعات والوصول إلى شريحة أوسع من العملاء. فالمطعم الصغير الذي كان يعتمد فقط على العملاء في نطاق جغرافي محدود، يمكنه الآن الوصول إلى مدينة بأكملها، مما يمنحه فرصة للنمو والانتشار.
ومن جهة أخرى، فإن هذه التطبيقات تفرض عليهم رسوماً باهظة قد تصل إلى 30% من قيمة كل طلب. هذه النسبة الضخمة تلتهم جزءًا كبيرًا من أرباح المطعم، وتجعله في وضع صعب، خاصة في ظل ارتفاع تكاليف المواد الخام. المطاعم التي تحاول تعويض هذه الخسارة عن طريق رفع الأسعار على التطبيق، تخاطر بفقدان العملاء الذين يبحثون دائمًا عن أفضل الصفقات.
الأمر الأكثر خطورة هو أن هذه التطبيقات قد تسبب في فقدان المطعم لهويته الخاصة. فالمطعم لم يعد يتعامل بشكل مباشر مع العميل، بل أصبح وسيطًا بين التطبيق والمستهلك. هذا الفصل يمنع المطعم من بناء علاقة شخصية مع عملائه، ويجعل العلامة التجارية معتمدة بشكل كامل على المنصة التكنولوجية التي قد ترفع الرسوم أو تغير سياساتها في أي وقت.


ثالثاً: أبطال الخفاء.. تحديات سائقي التوصيل



وراء هذه الصناعة المزدهرة، يقف آلاف من "أبطال الخفاء" وهم سائقو التوصيل. هؤلاء الأشخاص هم العمود الفقري لهذه الصناعة، ولكن ظروف عملهم غالبًا ما تكون صعبة ومحفوفة بالمخاطر.
يواجه سائقو التوصيل ضغطًا مستمرًا للوصول في الوقت المحدد، وعليهم التعامل مع الازدحام المروري، والظروف الجوية السيئة، وحوادث الطرق. كل ذلك يأتي في مقابل عوائد مادية قد لا تكون كافية لتغطية نفقاتهم. كما أن تقييمات العملاء السلبية يمكن أن تؤثر على أرباحهم بشكل مباشر، مما يضعهم تحت ضغط نفسي مستمر.
على الجانب الإيجابي، فإن هذه الصناعة خلقت فرص عمل لعدد كبير من الشباب، وساعدتهم على تحقيق دخل في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة. ولكن يبقى السؤال: هل يمكن تحسين ظروف عملهم وضمان حقوقهم بشكل أكبر؟


رابعاً: الأثر الاقتصادي والاجتماعي.. تغييرات جذرية في السوق



إن تأثير تطبيقات التوصيل يتجاوز العلاقة بين المطعم والمستهلك. فقد أدت هذه التطبيقات إلى تغيير خريطة القطاع الغذائي في مصر. فظهرت مفاهيم جديدة مثل "مطابخ الأشباح" (Ghost Kitchens)، وهي مطابخ متخصصة في إعداد الطعام للتوصيل فقط، دون وجود منطقة استقبال للعملاء. هذه المطابخ تستغل ارتفاع الطلب على الدليفري، وتقلل من التكاليف التشغيلية، مما يعزز قدرتها التنافسية.
هذا التوجه دفع المطاعم التقليدية إلى التفكير في استراتيجيات جديدة. فبعضها بدأ في الاستثمار في خدمة التوصيل الخاصة به، والبعض الآخر ركز على تجربة تناول الطعام داخل المطعم، لتقديم قيمة مختلفة للمستهلك.
كما أن هذه الصناعة ساهمت في تحريك عجلة الاقتصاد الرقمي في مصر، حيث دفعت البنوك والشركات لتطوير حلول دفع إلكترونية، وساهمت في انتشار استخدام الخرائط الرقمية وتطبيقات تحديد المواقع.


نظرة إلى المستقبل.. إلى أين تتجه الصناعة؟



يتوقع الخبراء أن تستمر صناعة توصيل الطعام في النمو في مصر، ولكنها ستشهد تطورات كبيرة في السنوات القادمة. من المتوقع أن تظهر تقنيات جديدة ، بالإضافة إلى حلول أكثر استدامة للتعبئة والتغليف.
كما أن المنافسة الشرسة بين التطبيقات قد تؤدي إلى إعادة النظر في سياسات التسعير والرسوم، وربما تظهر منصات جديدة تقدم حلولاً أكثر عدالة للمطاعم. وفي النهاية، سيتعين على جميع الأطراف، من تطبيقات ومطاعم ومستهلكين، إيجاد توازن جديد يضمن استدامة الصناعة، وتقديم تجربة أفضل للجميع.
advertisement

All rights reserved. food today eg © 2022